كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ «لَا تَقْتُلْهُ عَمْدًا» اقْتَضَى النَّهْيَ قَتْلًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِنْدَ الْقَاتِلِ، وَإِذَا قَالَ «لَا تَقْتُلْهُ بِالسَّيْفِ» فَإِنَّمَا حَظَرَ عَلَيْهِ قَتْلًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إلَّا خَطَأً} إذَا كَانَ قَدْ اقْتَضَى إبَاحَةَ قَتْلِ الْخَطَإِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْقَاتِلُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ، وَالْحَالُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَظْرٌ وَلَا إبَاحَةٌ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْقَتْلُ عَلَى أَنْحَاءٍ أَرْبَعَةٍ عَمْدٌ، وَخَطَأٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَمَا لَيْسَ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ.
فَالْعَمْدُ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِ الْمَقْصُودِ بِهِ.
وَالْخَطَأُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ رَمْيَ مُشْرِكٍ أَوْ طَائِرٍ فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَظُنَّهُ مُشْرِكًا لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَوْ عَلَيْهِ لِبَاسُهُمْ؛ فَالْأَوَّلُ خَطَأٌ فِي الْفِعْلِ وَالثَّانِي خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ.
وَشِبْهُ الْعَمْدِ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ مِنْ حَجَرٍ أَوْ عَصًا؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ، فَهُوَ قَتْلُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ مَا قُصِدَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَالْخَطَأَ أَيْضًا الْفِعْلُ فِيهِ مَقْصُودٌ إلَّا أَنَّهُ يَقَعُ الْخَطَأُ تَارَةً فِي الْفِعْلِ وَتَارَةً فِي الْقَصْدِ، وَقَتْلُ السَّاهِي غَيْرُ مَقْصُودٍ أَصْلًا فَلَيْسَ هُوَ فِي حَيِّزِ الْخَطَإِ وَلَا الْعَمْدِ، إلَّا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْخَطَإِ فِي الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ أُلْحِقَ بِحُكْمِ الْقَتْلِ مَا لَيْسَ بِقَتْلٍ فِي الْحَقِيقَةِ لَا عَمْدًا وَلَا غَيْرَ عَمْدٍ، وَذَلِكَ نَحْوُ حَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ إذَا عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ؛ هَذَا لَيْسَ بِقَاتِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ فِي قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنَّا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً أَوْ مُتَوَلِّدًا، وَلَيْسَ مِنْ وَاضِعِ الْحَجَرِ وَحَافِرِ الْبِئْرِ فِعْلٌ فِي الْعَاثِرِ بِالْحَجَرِ وَالْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا تَوَلُّدًا، فَلَمْ يَكُنْ قَاتِلًا فِي الْحَقِيقَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنْ الْقَاتِلِ أَوْ الْعَاقِلَةِ وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إيجَابِ دِيَةِ الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ؛ مِنْهَا مَا رُوِيَ الْحَجَّاجِ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ وَيَفُكُّوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ».
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ، ثُمَّ كَتَبَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَتَوَلَّى مَوْلَى رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ» وَرَوَى مُجَالِدُ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ قَتَلَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ وَوَلَدٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ وَتَرَكَ زَوْجَهَا وَوَلَدَهَا، فَقَالَ عَاقِلَةُ الْمَقْتُولَةِ: مِيرَاثُهَا لَنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا؛ قَالَ: وَكَانَتْ حُبْلَى، فَأَلْقَتْ جَنِينًا، فَخَافَ عَاقِلَةُ الْقَاتِلَةِ أَنْ يُضَمِّنَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا سَجْعُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَضَى فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَبْدًا أَوْ أَمَةً».
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْجَنِينِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ: أَنُودِيَ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هَذَا لَقَوْلُ الشَّاعِرِ، فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ».
وَرَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «جَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ».
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «جَعَلَ الْعَقْلَ عَلَى الْعَصَبَةِ».
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: اخْتَصَمَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ فِي وَلَاءِ مَوَالِي صَفِيَّةَ إلَى عُمَرَ، فَقَضَى بِالْمِيرَاثِ لَلزُّبَيْرِ وَالْعَقْلِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ فِي قَوْمٍ أَجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَعَنْ عُمَرَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَحَيٍّ آخَرَ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إيجَابِ دِيَةِ الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَاتَّفَقَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ وَلَا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ»، وَقَالَ لِأَبِي رَمَثَةَ وَابْنِهِ: إنَّهُ «لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ»، وَالْعُقُولُ أَيْضًا تَمْنَعُ أَخْذَ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ.
قِيلَ لَهُ: أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَفَتْ أَنْ يُؤْخَذَ الْإِنْسَانُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَخْذُهُمْ بِذَنْبِ الْجَانِي، إنَّمَا الدِّيَةُ عِنْدَنَا عَلَى الْقَاتِلِ وَأَمْرُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِالدُّخُولِ مَعَهُ فِي تَحَمُّلِهَا عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُمْ ذَنْبُ جِنَايَتِهِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ حُقُوقًا لِلْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِهِمْ ذَنْبًا لَمْ يُذْنِبُوهُ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ، وَأَمَرَ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ بِكُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا لِلْمُوَاسَاةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَكَذَلِكَ أَمَرْت الْعَاقِلَةَ بِتَحَمُّلِ الدِّيَةِ عَنْ قَاتِلِ الْخَطَإِ عَلَى جِهَةِ الْمُوَاسَاةِ مِنْ غَيْرِ إجْحَافٍ بِهِمْ وَبِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ كُلُّ رِجْلٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ فِي أُعْطِيَّاتِهِمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَمُؤَجِّلَةٌ ثَلَاثُ سِنِينَ؛ فَهَذَا مِمَّا نُدِبُوا إلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَقَدْ كَانَ تَحَمُّلُ الدِّيَاتِ مَشْهُورًا فِي الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ جَمِيلِ أَفْعَالِهِمْ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِمْ؛ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»، فَهَذَا فِعْلٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ مَقْبُولٌ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أَبِيهِ وَلَا بِجَرِيرَةِ أَخِيهِ»، «وَلَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ».
لَا يَنْفِي وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَامَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ أَوْ يُطَالَبَ بِذَنْبِ سِوَاهُ.
وَلِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وُجُوهٌ سَائِغَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الْعُقُولِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ بَدِيًّا بِإِيجَابِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ لِهَذَا الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ كَانَ مِنْهُ، كَمَا أَوْجَبَ الصَّدَقَاتِ فِي مَالِ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَوْضُوعَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنَّمَا هُوَ عَلَى النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ، وَلِذَلِكَ أَوْجَبَهَا أَصْحَابُنَا عَلَى أَهْلِ دِيوَانِهِ دُونَ أَقْرِبَائِهِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ نُصْرَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَتَنَاصَرُونَ عَلَى الْقِتَالِ وَالْحِمَايَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ؟ فَلَمَّا كَانُوا مُتَنَاصِرِينَ فِي الْقِتَالِ وَالْحِمَايَةِ أُمِرُوا بِالتَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى تَحَمُّلِ الدِّيَةِ لِيَتَسَاوَوْا فِي حَمْلِهَا كَمَا تُسَاوَوْا فِي حِمَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عِنْدَ الْقِتَالِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ زَوَالُ الضَّغِينَةِ وَالْعَدَاوَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إذَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ دَاعٍ إلَى الْأُلْفَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ فَتَحَمَّلَ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ مَا قَدْ لَحِقَهُ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ الْعَدَاوَةِ وَإِلَى الْأُلْفَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ؟ كَمَا لَوْ قَصَدَهُ إنْسَانٌ بِضَرَرٍ فَعَاوَنَهُ وَحَمَاهُ عَنْهُ انْسَلَّتْ سَخِيمَةُ قَلْبِهِ وَعَادَ إلَى سَلَامَةِ الصَّدْرِ وَالْمُوَالَاةِ وَالنُّصْرَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا تَحَمَّلَ عَنْهُ جِنَايَتَهُ حَمَلَ عَنْهُ الْقَاتِلُ إذَا جَنَى أَيْضًا، فَلَمْ يَذْهَبْ حَمْلُهُ لِلْجِنَايَةِ عَنْهُ ضَيَاعًا بَلْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ مَحْمُودٌ يُسْتَحَقُّ مِثْلُهُ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ.
فَهَذِهِ وُجُوهٌ كُلُّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الْعُقُولِ غَيْرُ مَدْفُوعَةٍ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى الْمُلْحِدُ الْمُتَعَلِّقُ بِمِثْلِهِ مِنْ ضِيقِ عَقْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى حُسْنِ هِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ دِيَةِ الْخَطَإِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: «كُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ مِنْ غَيْرِ صُلْحٍ فَهِيَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ».
وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الشُّعَبِيِّ وَالْحَكَمُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَا: «أَوَّلُ مَنْ فَرَضَ الْعَطَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَفَرَضَ فِيهِ الدِّيَةَ كَامِلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَثُلُثَيْ الدِّيَةِ فِي سَنَتَيْنِ وَالنِّصْفُ فِي سَنَتَيْنِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فِي عَامِهِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ فَصَارَ إجْمَاعًا لَا يَسَعُ خِلَافُهُ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْعَاقِلَةِ مَنْ هُمْ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: «الدِّيَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا، وَالْعَاقِلَةُ هُمْ أَهْلُ دِيوَانِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أُعْطِيَّاتِهِمْ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ مِنْ الدِّيَةِ كُلِّهَا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنْ أَصَابَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فُرِضَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي، فَيُؤْخَذُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ وَيَضُمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ فِي النَّسَبِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ مِنْ الدِّيَةِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةً».
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: «وَيَعْقِلُ عَنْ الْحَلِيفِ حُلَفَاؤُهُ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ قَوْمُهُ».
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: «لَيْسَ أَهْلُ الدِّيوَانِ أَوْلَى بِهَا مِنْ سَائِرِ الْعَاقِلَةِ».
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: «الدِّيَةُ عَلَى الْقَبَائِلِ عَلَى الْغَنِيِّ عَلَى قَدْرِهِ وَمَنْ دُونَهُ عَلَى قَدْرِهِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَنِصْفًا».
وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ أُعْطِيَّاتِهِمْ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: «تَجْعَلُ الدِّيَةُ ثُلُثًا فِي الْعَامِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ الرَّجُلُ وَلَكِنْ تَكُونُ عِنْدَ الْأَعْطِيَةِ عَلَى الرِّجَالِ».
وَقَالَ الْحَسَنُ بْن صَالِحٍ: «الْعَقْلُ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ فِي أَعْطِيَةِ الْمُقَاتَلَةِ» وَقَالَ اللَّيْثُ: «الْعَقْلُ عَلَى الْقَاتِلِ وَعَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يَأْخُذُ مَعَهُمْ الْعَطَاءَ وَلَا يَكُونُ عَلَى قَوْمِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَحْمِلُ الْعَقْلَ ضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ».
وَرَوَى الْمَزْنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ: «أَنَّ الْعَقْلَ عَلَى ذَوِي الْأَنْسَابِ دُونَ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَالْحُلَفَاءِ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ بَنِي أَبِيهِ ثُمَّ مِنْ بَنِي جَدِّهِ ثُمَّ مِنْ بَنِي جَدِّ أَبِيهِ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ الْبَعْضِ حَمَلَ الْمَوَالِي الْمُعْتَقُونَ الْبَاقِي، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضٍ وَلَهُمْ عَوَاقِلُ عَقَلَتْهُمْ عَوَاقِلُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذُو نَسَبٍ وَلَا مَوْلَى مِنْ أَعْلَى حَمْلٍ عَلَى الْمَوَالِي مِنْ أَسْفَلَ، وَيَحْمِلُ مَنْ كَثُرَ مَالُهُ نِصْفَ دِينَارٍ وَمَنْ كَانَ دُونَهُ رُبْعَ دِينَارٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى هَذَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدِيثُ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ وَقَالَ: لَا يَتَوَلَّى مَوْلَى قَوْمٍ إلَّا بِإِذْنِهِمْ» يَدُلُّ عَلَى سُقُوطُ اعْتِبَارِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَأَنَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ مِنْ الْجَانِي سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمٍ حِينَ قَتَلَ مُسْلِمًا وَهُوَ يَظُنُّهُ كَافِرًا: «إنَّ عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك الدِّيَةَ» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ مِنْهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَسَاوِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ مَعَ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك الدِّيَةُ».
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَاقَلُونَ بِالنُّصْرَةِ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَجَرَى الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ جَعَلَ عُمَرُ الدَّوَاوِينَ فَجَمَعَ بِهَا النَّاسَ وَجَعَلَ أَهْلَ كُلِّ رَايَةٍ وَجُنْدٍ يَدًا وَاحِدَةً وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْأَعْدَاءِ، فَصَارُوا يَتَنَاصَرُونَ بِالرَّايَاتِ وَالدَّوَاوِينِ وَعَلَيْهَا يَتَعَاقَلُونَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَعَلَى الْقَبَائِلِ لِأَنَّ التَّنَاصُرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْقَبَائِلِ؛ فَالْمَعْنَى الَّذِي تَعَاقَلُوا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ النُّصْرَةُ، فَإِذَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ النُّصْرَةُ بِالرَّايَاتِ وَالدَّوَاوِينِ تَعَاقَلُوا بِهَا لِأَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ مِنْ الْقَبِيلَةِ، فَإِذَا فُقِدَتْ الرَّايَاتُ تَنَاصَرُوا بِالْقَبَائِلِ وَبِهَا يَتَعَاقَلُونَ أَيْضًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ تَابِعٌ لِلنُّصْرَةِ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَدْخُلْنَ فِي الْعَقْلِ لِعَدَمِ النُّصْرَةِ فِيهِنَّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ النُّصْرَةِ فِي الْعَقْلِ.